تُعَدُّ السلامة والصحة المهنية من أهم القضايا التي يجب على المؤسسات والأفراد منحها اهتمامًا بالغًا، حيث تسهم في حماية العنصر البشري في مختلف مواقع العمل، وتضمن سير العمليات الإنتاجية بكفاءةٍ واستمرارية. فإذا كانت المؤسسة تعتمد على معدّات وآليات متطوِّرة وتقنيات حديثة من أجل رفع جودة المنتجات والخدمات، فإن تحقيق هذه الأهداف لن يكتمل دون تطبيق معايير السلامة وتوفير بيئة عمل صحية ومأمونة. في هذا المقال، سنتناول مفهوم السلامة والصحة المهنية، وأهميتها، والعوامل المؤثرة فيها، وأبرز الخطوات العملية لتعزيزها والارتقاء بها.
أوّلًا: تعريف السلامة والصحة المهنية
السلامة والصحة المهنية (Occupational Safety and Health – OSH) هي مجموعة من الإجراءات والتدابير الممنهجة التي تُطبَّق في بيئة العمل بهدف الوقاية من الأخطار التي قد يتعرّض لها العمال أو الممتلكات أو البيئة المحيطة. وتشمل هذه التدابير توفير المعدات والتجهيزات اللازمة للوقاية من الحوادث والإصابات، فضلًا عن نشر ثقافة الوعي بالمخاطر، والتدريب المستمر للعاملين على أساليب العمل الآمنة.
إن مصطلح “السلامة والصحة المهنية” يتعدّى كونه التزامًا قانونيًا وأخلاقيًا، ليشمل الجانب التثقيفي والتدريبي الذي يُكسب الأفراد مهارات التعامل مع المخاطر المحتملة. ويشمل أيضًا تطوير خطط الطوارئ وآليات الإبلاغ عن الحوادث وإصدار التوصيات التصحيحية لتلافي تكرارها.
ثانيًا: أهمية السلامة والصحة المهنية في بيئة العمل
- حماية العاملين والممتلكات
تكمن الأهمية المحورية للسلامة والصحة المهنية في المحافظة على سلامة العنصر البشري. عندما يُوفَّر للعامل الظروف الآمنة والمهيّأة، تقل الحوادث والإصابات، وتتجنّب المؤسسة التكاليف والخسائر الناتجة عن تعويضات العمال أو الأضرار بالمعدّات. - رفع الإنتاجية والجودة
إن تطبيق معايير السلامة والصحة المهنية يساعد على رفع مستوى الأداء الفردي والجماعي، حيث يشعر العاملون بالطمأنينة ويزيد تركيزهم في أداء مهامهم. ومع تراجع نسبة الحوادث، تنخفض التوقّفات الطارئة في خطوط الإنتاج، ويؤدي ذلك إلى تحسن جودة المنتجات والخدمات. - تعزيز سمعة المؤسسة
ترتبط المؤسّسات التي توفّر بيئة عمل آمنة وصحية باسم مرموق وسمعة إيجابية في السوق. وتزداد ثقة العملاء والمتعاملين والمستثمرين في أنشطة هذه المؤسسة، إذ يرون أنها تتبنّى معايير عالية في إدارة المخاطر وحماية الأفراد. - الالتزام بالمسؤولية الاجتماعية
تُعدُّ توفير بيئة عمل آمنة وصحية جزءًا أصيلًا من المسؤولية الاجتماعية التي ينبغي أن تتحملها المؤسسات. فبدلاً من التركيز على الأرباح المادية فقط، يتعين عليها أيضًا الانخراط في تحسين ظروف العاملين والمساهمة في ازدهار المجتمع المحيط بها. - التوافق مع اللوائح والقوانين
في العديد من الدول، هناك تشريعات ولوائح تُلزِم جهات العمل بتطبيق معايير محدّدة للسلامة والصحة المهنية. ومن خلال الامتثال لهذه اللوائح، تتجنّب المؤسّسة المساءلة القانونية والغرامات المالية، وتحافظ على استمرارية عملياتها دون تعرّض لوقف النشاط أو الحظر.
ثالثًا: العوامل المؤثرة في السلامة والصحة المهنية
- خصائص بيئة العمل
تختلف العوامل الخطرة في بيئات العمل باختلاف طبيعة النشاط؛ فهناك أنشطة ترتبط بالتعامل مع المواد الكيميائية أو العناصر الإشعاعية أو الآلات الثقيلة. ويتطلب كل مجال إجراءات احترازية خاصة بمستوى عالٍ من الدقة والمتابعة. - الموارد البشرية والوعي
يعدُّ العامل البشري المفتاح الرئيس لنجاح منظومة السلامة والصحة المهنية. لذلك، يعتمد نجاح المؤسسة في تحقيق السلامة على مدى وعي العاملين بأهمية الالتزام بالقواعد والإجراءات والإبلاغ عن أي مشكلات أو أعطال محتملة. - الإدارة والقيادة
تلعب الإدارة دورًا حاسمًا في تطبيق معايير السلامة والصحة المهنية. عندما تولي الإدارة العليا اهتمامًا فعليًا بتطبيق هذه المعايير وتشجع الموظفين على الالتزام بها، تتعزز ثقافة السلامة وتنخفض نسبة الحوادث بشكلٍ ملحوظ. - المعدّات والتجهيزات الفنية
تؤثر جودة المعدّات والآليات المستخدمة في المنشأة بشكلٍ مباشر على مستوى السلامة. فالمعدات القديمة أو المُستهلكة، والتي تفتقر للصيانة الدورية، قد تزيد من فرص حدوث الحوادث والإصابات. - التشريعات والأنظمة المحلية والدولية
تتطلّب العديد من الهيئات الوطنية والمنظمات العالمية التقيّد بمعايير سلامة محددة (مثل معايير منظمة العمل الدولية). ويُسهم الالتزام بهذه المعايير في تحسين بيئة العمل وحماية العاملين.
رابعًا: المخاطر الشائعة في بيئات العمل
- المخاطر الفيزيائية
مثل الضوضاء والاهتزازات ودرجات الحرارة العالية أو المنخفضة جدًا. تؤثر هذه العوامل على راحة العامل وقدرته على التركيز، وقد تتسبب في أضرار صحية على المدى الطويل إذا لم يتم التحكم فيها. - المخاطر الكيميائية
تشمل تعرّض العاملين للمواد الكيميائية السامة أو المهيّجة أو القابلة للاشتعال. ويمكن أن تسبب هذه المواد أمراضًا مهنية خطيرة إذا لم يتم اتخاذ تدابير وقائية صارمة في التخزين والنقل والاستخدام. - المخاطر البيولوجية
تظهر في المنشآت الصحية والمختبرات ومرافق معالجة النفايات، وتتمثل في الفيروسات والبكتيريا والفطريات والمنتجات الحيوية الضارة. وتحتاج هذه البيئات إلى إجراءات تعقيم ونظافة عالية المستوى. - المخاطر الهندسية والميكانيكية
تتعلّق باستخدام المعدات والآلات الثقيلة أو الحادة، وقد ينجم عنها إصابات جسيمة مثل السقوط من مرتفعات عالية أو التعثر في الأسطح الزلقة. وتشترط هذه الأعمال توفير إرشادات استخدام واضحة وتأهيل العاملين على أساليب التعامل الآمن مع الأجهزة. - المخاطر النفسية والاجتماعية
قد تنتج عن ضغوط العمل الزائدة أو التعرّض للتوتر المستمر والتعامل مع مشكلات العملاء. يتطلّب التعامل مع هذه المخاطر وضع خطط لتحسين بيئة العمل النفسية ومراعاة الجوانب الاجتماعية والإنسانية للعاملين.
خامسًا: خطوات عملية لتعزيز السلامة والصحة المهنية
- تقييم المخاطر وتحديدها
يُعَدُّ تحديد المخاطر في بيئة العمل الخطوة الأولى نحو وضع خطة شاملة للسلامة والصحة المهنية. ويتم ذلك عبر جمع المعلومات وتحليل بيانات الحوادث السابقة، واستشارة الخبراء، والقيام بعمليات تفتيش دورية لتحديد مكامن الخطر. - وضع خطط وإجراءات السلامة
بعد تحديد المخاطر، يجب إعداد خطط تفصيلية تتضمن الإجراءات الوقائية والعلاجات اللازمة. ويشمل ذلك تحديد منسق للسلامة والصحة المهنية، ووضع آليات للتبليغ عن المخالفات والحوادث، وتشكيل لجان مختصّة بالمتابعة والتقييم. - التدريب والتوعية
يمكن القول إن التدريب هو عصب السلامة والصحة المهنية. يجب على المؤسسات تقديم برامج تدريبية منتظمة للموظفين بشأن قواعد السلامة والإسعافات الأولية واستخدام معدات الحماية الشخصية. ويتم تحديث هذه البرامج دوريًا لتتناسب مع التطورات التكنولوجية واحتياجات المنشأة. - توفير معدّات الحماية الشخصية (PPE)
تتضمّن هذه المعدات الخوذات والقفازات والأحذية الواقية ونظارات السلامة وأقنعة الوجه. ويجب التأكد من ملاءمتها لطبيعة العمل وتحسين جودتها بشكلٍ دوري، بالإضافة إلى إلزام العاملين باستخدامها. - الصيانة الدورية للمعدّات والآلات
يساهم إجراء الصيانة الوقائية في اكتشاف الأعطال مبكرًا ومنع وقوع حوادث كارثية في مكان العمل. لذا، يجب وضع خطط صيانة منتظمة وتسجيل العمليات التي يتم تنفيذها وتوثيقها بشكلٍ منهجي. - التفتيش والرقابة الداخلية
ينبغي للمؤسسة إجراء عمليات تفتيش دوريّة للتأكد من التزام العاملين بالإجراءات المتّفق عليها، وضمان فعالية خطط السلامة المُطبقة. ويُفضّل تشكيل لجان مشتركة من الإدارات المختلفة للتأكد من تغطية جوانب العمل كافة. - التعامل مع الحوادث والتحقيق فيها
إذا وقعت حادثة ما، فالعنصر الأهم هو سرعة التعامل وإجراء الإسعافات اللازمة وتوثيق التفاصيل. يساعد التحقيق الفوري في معرفة الأسباب الجذرية للحادث ووضع إجراءات تصحيحية لمنع تكراره مستقبلًا.
سادسًا: دور الإدارة في تطبيق معايير السلامة والصحة المهنية
- التزام الإدارة العليا
يظهر هذا الالتزام من خلال توفير الميزانيات اللازمة لتأمين معدّات الحماية وتطوير البنية التحتية لبيئة العمل، وتعزيز ثقافة السلامة عبر إصدار القرارات والتعاميم الخاصة بإرشادات السلامة. - تعيين متخصصين في السلامة والصحة المهنية
يجب على المؤسسات تعيين أشخاص مؤهّلين للإشراف على تنفيذ السياسات والإجراءات المتعلقة بالسلامة، وجمع التقارير اللازمة، ومتابعة تنفيذ التوصيات في جميع أقسام المنشأة. - توفير قنوات اتصال فعّالة
يستوجب الأمر توفير أنظمة تواصل بسيطة وسهلة الإبلاغ عن أي خلل أو خطر، كي يتم التدخل بشكلٍ سريع واتخاذ الإجراءات الضرورية. كما يساهم التواصل المستمر في زيادة وعي العاملين وتشجيعهم على طرح الأفكار والملاحظات. - المراجعة والتحديث المستمر
تنعكس التغييرات المستمرّة في التقنيات والقوانين على سياسات وأنظمة السلامة والصحة المهنية، ما يحتم مراجعة هذه السياسات وتحديثها بشكلٍ دوري لضمان مواكبة المستجدّات.
سابعًا: التحديات التي تواجه تطبيق السلامة والصحة المهنية
- الوعي المجتمعي المنخفض
بالرغم من الجهود المبذولة، قد يواجه بعض العاملين أو أصحاب الأعمال صعوبة في تبنّي الوعي الكامل حول مخاطر عدم الالتزام بمعايير السلامة. ويعود ذلك إلى افتقارهم للتدريب الكافي أو عدم إدراكهم للعواقب المحتملة. - التكلفة المالية
قد تُشكِّل التكاليف المرتفعة لتوفير بيئة عمل آمنة، بما فيها شراء معدات الحماية الشخصية وتركيب الأنظمة الوقائية، تحدّيًا للمؤسسات الصغيرة. ومع ذلك، فإن الاستثمار في السلامة غالبًا ما يعود بالنفع المالي على المدى الطويل. - عدم تعاون الموظفين
قد يتهاون بعض الموظفين في الالتزام بالإجراءات والقواعد، بسبب الكسل أو الاستعجال في إنجاز الأعمال. وبالتالي يستلزم الأمر تصميم برامج تحفيزية وتوعوية تضمن انخراط الجميع في تنفيذ الخطط الوقائية. - تعدّد الأنشطة الصناعية
تختلف معايير السلامة من قطاعٍ إلى آخر، إذ يعتمد كل قطاع على مجموعة متنوعة من المعدات والأدوات. ويزيد ذلك من صعوبة وضع إطار عام للسلامة، ما يتطلب تخصيص سياسات وبرامج تدريبية تناسب كل نوع من أنواع الأعمال. - التطور التكنولوجي المتسارع
مع دخول التقنيات الحديثة إلى مختلف الصناعات، قد تظهر مخاطر جديدة مرتبطة بالأتمتة والذكاء الاصطناعي والروبوتات. وهذا يستدعي وضع معايير جديدة وتحديث إجراءات السلامة والصحة المهنية بما يواكب المستجدات.
ثامنًا: خطوات إضافية لتعزيز بيئة عمل صحية وآمنة
- دعم الصحة النفسية للعاملين
يحتاج العامل إلى الشعور بالأمان النفسي، وهذا يتحقق عبر توفير بيئة عمل إيجابية تُشجِّع على التواصل واحترام الآراء واحتواء المشكلات الشخصية. ويتطلب الأمر أحيانًا تنظيم ورش عمل تعنى بالصحة النفسية وتقنيات إدارة الضغوط. - تطبيق برامج السلامة الإلكترونية
في العصر الرقمي، تتزايد فرص استخدام البرمجيات التي توثّق الحوادث وتقيّم المخاطر وتتابع الجوانب المتّصلة بالصيانة والتدريب. تسهِّل هذه الأدوات عمل المسؤولين عن السلامة وتسمح بتحليل البيانات واستخلاص النتائج بدقة. - إطلاق حملات توعية داخلية وخارجية
يمكن تنظيم حملات للتوعية داخل المنشأة لرفع مستوى إدراك العاملين بقواعد السلامة، فضلاً عن المشاركة في فعاليات مجتمعية خارجية لتبادل الخبرات وتعميم الفائدة على المجتمع بأكمله. - الاعتراف والجوائز
تشجيع العاملين والإدارات التي تلتزم بمعايير السلامة من خلال تقديم جوائز أو شهادات تقدير يخلق مناخًا إيجابيًا يساهم في تحسين الأداء ويجعل السلامة ثقافة سائدة وليست مجرد قواعد مكتوبة. - التكامل مع برامج الإدارة الأخرى
لا ينبغي النظر إلى السلامة والصحة المهنية بمعزل عن الخطط والأهداف العامة للمؤسسة. فبناء تكامل بين البرامج الإدارية الأخرى (مثل الجودة والبيئة والمسؤولية الاجتماعية) يعزّز من ترابط الجهود ويحقق كفاءة أكبر في استخدام الموارد.
تاسعًا: الخلاصة
إن السلامة والصحة المهنية ليست مجرّد التزام قانوني يجب على المؤسسات تنفيذه فحسب، بل هي ثقافة شاملة تدعم استقرار العمليات التشغيلية وتعزز المسؤولية الجماعية لحماية العاملين والمجتمع. فمن خلال تطبيق السياسات الصارمة والمتجدّدة، وتوفير التدريب والوعي المناسبين، والتشجيع على التبليغ عن أي أخطاء أو حوادث، يمكن للمؤسسات أن تضمن بيئة عمل مستدامة تحمي العنصر البشري وترفع من قيمة المنتجات والخدمات.
لا شك أن تقنيات المستقبل وتغييرات السوق المتسارعة تفرض على المؤسسات مرونة فائقة في إدارة السلامة والصحة المهنية، والعمل على تحديث إجراءاتها باستمرار. ويجب أن يكون الالتزام بالسلامة نابعًا من أعلى مستويات الإدارة وصولًا إلى العاملين في الميدان، وهذا هو الأساس لتكوين منظومة متكاملة تضع السلامة على قائمة أولوياتها.
ويبقى الهدف الأسمى هو بناء ثقافة مؤسسية تُحفِّز على الالتزام والصراحة في معالجة المخاطر، وتدرك أن الاستثمار في رفاهية العاملين لا يقتصر على الجانب الأخلاقي فقط، بل يضمن نموًا اقتصاديًا مستدامًا ويعزّز سمعة المؤسسة على الصعيدين المحلي والعالمي.
للمزيد من المعلومات حول معايير السلامة والصحة المهنية وتحديثاتها الدولية، يُمكنكم زيارة الموقع الرسمي لمنظمة العمل الدولية (ILO):
https://www.ilo.org/global/topics/safety-and-health-at-work/lang–en/index.htm