تُعدّ حرفة الجبس واحدةً من أعرق الفنون والحرف اليدويّة التي أبدع فيها الإنسان عبر التاريخ، وهي تمثّل رمزًا للأناقة والجمال في عالم الديكور والتصميم الداخلي. من الزخارف التقليديّة في المساجد والقصور القديمة إلى الديكورات الحديثة في المنازل العصرية، يؤدّي الجبس دورًا مهمًّا في إضفاء لمسة فنيّة فريدة على المباني والمساحات المختلفة. في هذا المقال، سنستعرض تاريخ حرفة الجبس وأهم أنواعها وأدواتها، مع التركيز على طرق تصنيع الأعمال الجبسيّة، وأشهر أشكال النقش والزخرفة، إضافةً إلى أهميّتها في التصميم المعماري الحديث وكيفيّة الحفاظ عليها وتطويرها.
1. لمحة تاريخية عن حرفة الجبس
يعود استخدام الجبس إلى آلاف السنين، فقد عُثر على أدلّةٍ تاريخيّة تُشير إلى استخدامه في الحضارات القديمة مثل الحضارة الفرعونيّة في مصر، حيث استُخدم في تزيين القصور والمعابد. وقد برع المصريّون القدماء في حرفة النقش والنحت على الجبس، مستفيدين من خواصّه المميّزة كالصلابة بعد جفافه وسهولة تشكيله في بداية خلطه بالماء.
وفي العصور الإسلاميّة، ازدهرت حرفة الجبس بشكلٍ كبير، إذ ظهرت أروع النماذج في فنّ الزخرفة العربيّة والإسلاميّة، خصوصًا في بلاد المغرب والأندلس. وقد تميّزت هذه الزخارف بالتفنّن في النقوش الهندسيّة والأشكال النباتيّة والكتابات العربيّة. وقد حظيت المساجد والقصور بنصيبٍ وافرٍ من جمال النقش الجبسي، وتطوّرت هذه الحرفة لتُصبح أحد أهمّ الفنون الشائعة في الثقافة العربيّة والإسلاميّة.
2. المواد والأدوات الأساسية
أ. الجبس
يُعرف الجبس بأنّه مادّةٌ طبيعيّةٌ كلسيّة، وعادةً ما يتوفّر على شكل مسحوقٍ أبيض يتمّ الحصول عليه من الصخور الجبسيّة. عند خلط المسحوق بالماء، يصبح لدينا معجون قابل للتشكيل قبل أن يجفّ ويقسو. وتختلف درجة النعومة والنقاء في مسحوق الجبس اعتمادًا على مصدره وطرق تصنيعه، الأمر الذي قد يؤثّر على جودة المنتج النهائي.
ب. القوالب
تعدّ القوالب من الأدوات الأساسيّة في الحرفة الجبسيّة، فهي التي تُحدّد شكل القطعة وملامحها. قد تكون القوالب معدنيّةً أو خشبيّة أو حتى من السيليكون، ويستعين بها الحرفيّون لإنشاء النقوش المتكرّرة أو العناصر الهندسيّة المعقّدة. كما تُسهم القوالب في تيسير عمليّة الإنتاج، وتتيح للحرفيّ القيام بنفس التصميم مرّات عدّة دون التنازل عن الدقّة والجودة.
ج. الأدوات اليدويّة
يلجأ الحرفيّون إلى استخدام أدواتٍ يدويّةٍ دقيقةٍ مثل الإزميل والمطرقة الصغيرة والسكاكين الخاصة لتنعيم الزوايا والحواف، ولتنفيذ التصاميم التفصيليّة التي تتطلّب مهارةً عاليةً وصبرًا كبيرًا. ومن الأدوات الأساسيّة أيضًا الفرش المتنوّعة التي تُساعد في تنعيم سطح الجبس وإزالة الفقاعات الهوائيّة قبل أن يجفّ.
3. أهم أنواع الجبس المستخدم في الحرفة
- الجبس العادي (أو التجاري)
هو الأكثر استخدامًا وشيوعًا في الأسواق، يختلف في مستوى النعومة والجودة، ويُستخدم غالبًا في الأعمال الداخليّة كتصميم الأسقف والجدران وإخفاء التمديدات الكهربائيّة وأنظمة التكييف. - الجبس المقاوم للرطوبة
يحتوي على إضافات خاصّة تزيد من قدرته على تحمّل الرطوبة، ممّا يجعله مناسبًا للمطابخ والحمّامات والمساحات التي تتعرّض لمعدلات رطوبةٍ عالية. - الجبس المقاوم للحريق
يُستخدم في الأماكن التي تتطلّب عزلًا عاليًا للحرارة، حيث يحتوي على إضافات كيميائيّة تقلّل من فرصة انتشار النيران وتُبطئ من تلف المواد الهيكليّة للمبنى عند حدوث حرائق. - الجبس الفنّي
يُعرف بنعومته الفائقة وسهولة تشكيله، وهو يُستخدم في صناعة القوالب الدقيقة والتماثيل والأعمال الفنيّة اليدويّة التي تتطلّب تفاصيل عالية.
4. طرق تصنيع الأعمال الجبسية
أ. طريقة الصبّ في القوالب
تُعدّ طريقة الصبّ في القوالب من أكثر الأساليب شيوعًا في حرفة الجبس، حيث يقوم الحرفي بتحضير المزيج الجبسي ومزجه بالماء بالمقادير المناسبة. بعد ذلك تُصبّ العجينة في القالب المُعدّ مسبقًا مع التأكّد من وصول المادّة إلى جميع التفاصيل والفراغات داخل القالب. يُترك الجبس ليجفّ، ثمّ يُزال من القالب ويُجرى تنعيم الحواف وصقل الزوايا.
ب. النحت اليدوي
تتطلّب هذه العمليّة مهاراتٍ فنيّةٍ عالية وخبرةً كبيرةً في التعامل مع الجبس. يبدأ الحرفي بتشكيل الجبس بشكلٍ عام، ثم يستخدم الإزميل والأدوات اليدويّة الأخرى لإنشاء تفاصيل دقيقة ونقوش خاصّة. تتطلّب هذه الطريقة وقتًا أطول ومجهودًا أكبر، ولكنّها تُقدّم نتائج فريدة وعالية القيمة الفنيّة.
ج. النقش على الأسطح الجاهزة
في بعض الأحيان، يقوم الحرفي بصناعة ألواح جبسيّة ثمّ يباشر بالنقش عليها مباشرةً عندما تكون رطبة وقابلة للتشكيل. تُستخدم هذه الطريقة في تنفيذ النقوش العربيّة والهندسيّة المعقّدة، وتُتيح مرونةً في العمل وإمكانيّة تصحيح الأخطاء أثناء العمليّة قبل أن يجفّ الجبس تمامًا.
5. أشهر أشكال النقش والزخرفة
- النقوش الهندسيّة
تُعتبر النقوش الهندسيّة جزءًا أصيلًا من الزخرفة العربيّة الإسلاميّة. يقوم الحرفي برسم تصاميم متداخلة تتشكّل من المربّعات أو المثلّثات أو أشكالٍ سداسيّة متكرّرة، ما يخلق نمطًا متناسقًا وممتعًا بصريًّا. - النقوش النباتيّة
تتضمّن الأشكال المستوحاة من الزهور وأوراق الأشجار والأغصان، وغالبًا ما تُدمج مع الخطوط العربيّة لتشكّل تصميمًا متميّزًا يعكس جمال الطبيعة في تفاصيله. - الكتابات العربيّة
يمنح الخط العربي حرفة الجبس طابعًا تراثيًّا خاصًّا. فالنصوص القرآنيّة والأبيات الشعريّة والحِكَم تُدمج أحيانًا في النقوش الجبسيّة، ما يضيف قيمةً دينيّةً أو أدبيّةً للفنّ المنفّذ. - النقوش التشكيليّة الحرّة
تشمل الأشكال غير التقليديّة والتصاميم الابتكاريّة التي يبتكرها الفنان أو الحرفي بناءً على رؤيته الذاتيّة. وقد يدمج فيها رسومات الحيوانات أو المناظر الطبيعيّة أو أنماطًا حديثةً تمزج بين الكلاسيكي والمعاصر.
6. أهمية حرفة الجبس في التصميم المعماري
- الجماليّة والفخامة
تشكّل الأعمال الجبسيّة عنصرًا جماليًّا يضفي لمسةً فاخرة على التصاميم المعماريّة. فالدقة في التفاصيل والنقوش تجعل المساحات الداخلية أكثر جاذبيّة وأقرب إلى روح الفنّ والتراث. - المرونة في التصميم
يتميّز الجبس بسهولة تشكيله قبل جفافه، ما يفتح المجال أمام المصمّمين لتنفيذ أفكارهم الإبداعيّة وتطويع الجبس ليتناسب مع مختلف الأنماط المعماريّة، سواء كانت كلاسيكيّة أو حديثة. - إخفاء العيوب الإنشائيّة
يستخدم الجبس غالبًا لإخفاء الأسلاك والأنابيب ومجاري التكييف داخل الأسقف والجدران. فهو يساعد في الحصول على مظهرٍ نظيفٍ وأنيقٍ، مع الحفاظ على سهولة الوصول إلى العناصر الخفيّة عند الحاجة إلى أعمال الصيانة. - العزل الحراري والصوتي
تُساهم بعض أنواع الجبس في تحسين العزل الحراري والصوتي للمباني، وذلك عن طريق إحكام إغلاق الفراغات وتشتيت الصوت. هذه الخاصيّة تزيد من الراحة والخصوصيّة داخل المنازل والمكاتب. - القيمة التراثيّة
تُعدّ حرفة الجبس جزءًا مهمًّا من الهوية التراثيّة لبلدانٍ عديدة، لذا فإنّ الحفاظ على هذا الفنّ وتوظيفه في المباني الحديثة يُعدّ تكريمًا للإرث الحضاري وتشجيعًا للحرف اليدويّة العريقة.
7. الحفاظ على الحرفة وتطويرها
- التدريب والتعليم
إنّ نشر دوراتٍ تعليميّةٍ متخصّصةٍ في حرفة الجبس من شأنه دعم الجيل الجديد من الحرفيين وتمكينهم من تقنيّات الصبّ والنحت والنقش. كما يُمكن إنشاء مراكز تدريب مهنيّة وتوفير ورش عمل تعزّز تبادل الخبرات بين الحرفيين القدامى والجدد. - الابتكار في التصميم
على الرغم من عراقة الحرفة، إلّا أنّ التطوّر مطلوبٌ للحفاظ على مكانتها في السوق المعاصر. يمكن دمج الأساليب الحديثة في التصميم وتوظيف التقنيات الرقميّة (مثل استخدام برامج التصميم ثلاثي الأبعاد) لإنتاج قوالب دقيقة والتغلّب على بعض القيود التقليديّة. - التسويق الإلكتروني
يفتح التسويق الإلكتروني نافذة واسعة لترويج الأعمال الجبسيّة، سواء عبر مواقع الويب المتخصّصة بالديكور أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي. إذ يمكن للحرفيين عرض منتجاتهم وبيعها لجمهورٍ أوسع محليًّا وعالميًّا، ما يسهم في زيادة فرص العمل والحفاظ على الحرفة من الاندثار. - الحفاظ على الجودة والمعايير
لضمان سلامة المباني وجاذبيّة التصاميم، يجب اعتماد معايير جودةٍ عاليةٍ في اختيار المواد والأدوات واستخدام أفضل أنواع الجبس. كما ينبغي تدريب الحرفيين على أساليب التركيب والتثبيت الآمن وإجراء الفحوص اللازمة قبل تنفيذ الأعمال الجبسيّة في المواقع الإنشائيّة. - التعاون بين الجهات المعنيّة
قد تلعب الهيئات الحكوميّة والجامعات والجمعيّات التراثيّة دورًا مهمًّا في دعم حرفة الجبس. وذلك من خلال توفير منحٍ وبرامج حماية وتطوير، إضافةً إلى إشراك الحرفيين في مشاريعٍ وطنيّةٍ كبرى تُعرّف الجمهور بمكانة هذا الفنّ.
8. نصائح للعناية بالأعمال الجبسيّة
- التنظيف الدوري
من المهمّ تنظيف الأسقف والجدران الجبسيّة بشكلٍ دوريّ باستخدام منفضة الغبار أو قطعة قماشٍ ناعمة. يجب تجنّب استخدام الماء مباشرةً على الجبس لأنّه يمتصّ الرطوبة بسهولة، ما قد يؤدّي إلى تشقّقه بمرور الوقت. - التعامل بحذر
عند إجراء أيّ إصلاحاتٍ أو صيانة للأسلاك أو الأنابيب المخفيّة خلف الجبس، يجب توخّي الحذر أثناء الحفر أو إزالة الأجزاء الجبسيّة، وإلا فقد ينكسر جزءٌ من الزخارف أو تتشوّه النقوش. - الحماية من الرطوبة
لا بدّ من معالجة أيّ تسرّبٍ للمياه في الجدران أو الأسقف قبل أن يصل إلى الجبس. فارتفاع مستوى الرطوبة يؤدي إلى تصدّعاتٍ وتشويه الأشكال الجبسيّة. يمكن الاستعانة بالدهانات المقاومة للماء أو مواد العزل الحراري لحماية العمل الجبسي. - الطلاء والصيانة الدورية
قد تحتاج الأعمال الجبسيّة القديمة إلى إعادة الطلاء بين الحين والآخر، مع مراعاة استخدام الدهانات المناسبة التي لا تؤثّر في الخواص الجماليّة للجبس. كما يُمكن توكيل فنيّ مختص للقيام بأعمال الترميم الضروريّة وضمان الحفاظ على التفاصيل الأصليّة.
9. خاتمة
لا شكّ في أنّ حرفة الجبس تمثّل أيقونةً فنيّةً وتراثيّةً في عالم العمارة والديكور، إذ تعبّر عن إبداع الإنسان وقدرته على تسخير الخامات الطبيعيّة لإنتاج قطعٍ فريدةٍ من نوعها. يتجلّى سحرها في التفاصيل الهندسيّة، والزخارف النباتيّة، والكتابات العربيّة التي تزيّن المساجد والقصور والمنازل. وفي الوقت الذي نجد فيه تطوّر التقنيات وظهور مواد بناءٍ جديدة، فإنّ الحفاظ على حرفة الجبس وتطويرها بات مسؤوليةً مشتركةً بين الحرفيّين والمؤسّسات الحكوميّة والجامعات والجهات المعنيّة بالتراث والثقافة.
من خلال تطبيق التقنيات الحديثة والتسويق الإلكتروني والحرص على التدريب المتخصّص، يمكن لهذه الحرفة أن تستمرّ في الازدهار وتواكب متطلبات العصر، دون التخلّي عن أصالتها وجذورها التاريخيّة. إنّ المزج بين التراث والحداثة يمنحنا فرصة لابتكار تصاميم أكثر جرأة وتميّزًا، ويُكرّس قيمة العمل اليدوي ويُظهر جماله في عالمٍ تسوده التقنيّات الرقمية والمنتجات الصناعيّة الجاهزة.
بالإضافة إلى ذلك، يجب الاهتمام بتشجيع الشباب على تعلّم هذه الحرفة وممارستها، سواءً بهدف الاحتراف أو الهواية، لأنّ توارث المهارات الفنيّة لا يقلّ أهميّة عن توارث القيم الثقافيّة والحضاريّة. عبر هذا الاهتمام المشترك، ستظل حرفة الجبس شاهدًا حيًّا على الحضارات الإنسانيّة وإرثًا تتناقله الأجيال، حاملةً معها روح الفنّ والجمال.
مصدر موثوق للمزيد من المعلومات المعماريّة:
ArchDaily