يَزخَرُ العالمُ العربيُّ والإسلاميُّ بالعديدِ من الفُنونِ التراثيّةِ التي تَبرُزُ فيها ملامحُ الإبداعِ والجَمَال، وتُعَدُّ حِرْفَةُ الزَّلِيجِ واحدةً من أبرزِ تلك الفنونِ التي تَشعُّ بعبَقِ الماضي وأصالته. ورغمَ تطوُّرِ العُمرانِ عبر العُصور، يَحتفظُ الزَّلِيجُ بمكانةٍ مرموقةٍ في مَجالِ التَّزْيِينِ والديكورِ الدّاخليِّ والخارجيّ، حيثُ يجمعُ بينَ الدِّقةِ الهندسيّةِ وغنى الألوانِ وتَعقيدِ التَّركيبات. في هذه المقالة، نَستعرضُ تاريخَ حرفة الزليج وأهمَّ مَراحِلِ صِناعَتِه، ونُلقي الضَّوءَ على تَحدّياتِه المُعاصِرة وآفاقِه المُستقبليّة.
حرفة الزليج: تَعريفٌ ومَفهوم
يُطلَقُ مُصطَلَحُ “الزَّلِيج” على قِطَعِ البلاطِ المُلوّنةِ التي تُقطَّعُ وتُشَكَّلُ بأشكالٍ هَندسيّةٍ وزَخرفيّةٍ تَرَاثِيّة، ثُمَّ تُرسَمُ بطرقٍ فنِّيّةٍ مُحْكَمةٍ على الجدرانِ والأرضِيّاتِ والسُّقوفِ وحتى النَّوافذ. تتداخلُ التَّصاميمُ في الزَّلِيجِ بشكلٍ يَجذبُ الأبصارَ، مُعتمدًا في ذلكَ على رُوحِ الفنِّ الإسلاميِّ الَّذي يُولِي اهتمامًا كبيرًا للأنماطِ الهندسيّةِ المُحكَمةِ والتَّكرارِ المُتناسِق. وتَنطبعُ في كلِّ قطعةٍ من قِطَعِ الزَّلِيجِ لمساتُ الإبداعِ اليدويِّ، ما يُضفي عليها فرادةً لا تُضاهَى، ويَمنَحُها قيمةً ثقافيّةً ومادِّيّةً عالية.
يعودُ أصلُ كلمةِ “الزَّلِيج” إلى جِذرٍ عربيٍّ يَدُلُّ على الزَّلَقِ أو الصَّقْل، ويُقالُ إنَّه لُقِّبَ بهذا الاسمِ نظرًا لِمَا تَمتازُ به القِطَعُ من لمعةٍ بَعدَ تَلْمِيعِها وتَزْجيجِها. كما يُحاجِجُ بعضُ المؤرِّخينَ بأنَّه جاءَ من الكلمةِ الأمازيغيّةِ القديمةِ المُشتَقّةِ من مفهومِ “الصَّقلِ” أو “التَّلْمِيع”. ومهما اختلفَت الآراء، فإنَّ الكلَّ يُجْمِعُ على أنَّ الزَّلِيجَ يَعنِي في جوهرِهِ تَلكَ القِطَعَ الخَزفِيّةَ الزُّخرفيّةَ التي تُبدَعُ في صِنَاعَتها الأيادي المَهَرَةُ منذُ قرون.
تَاريخُ حِرْفَةِ الزَّلِيج
1. البداياتُ التَّاريخيّة
يرتبطُ نشوءُ حِرْفَةِ الزَّلِيجِ ارتباطًا وثيقًا بالعُمرانِ الإسلاميِّ الذي ازدهرَ في العصرِ الأُمويِّ ثُمَّ العَبَّاسيِّ في المَشرق، وانتقلَ فيما بعدُ إلى المغربِ العربيِّ والأندلس. وقد كانت مناطقُ مثل مدينةِ القيروان في تونس، ومدينةِ فاس ومَراكش في المغرب، مَراكزَ حَضاريَّةً احتضَنت فنونًا زَخرفيّةً مُتنوِّعة. ومع انتقالِ الحرفيِّينَ بين هذه المَراكز، تَنامَى هذا الفنُّ وتطوَّرَ، لِيَظهَرَ الزَّلِيجُ بِصُورَتِه المُميَّزةِ الَّتي نُشاهِدُها اليوم.
2. التأثيرُ الأندلسي
لا يَخفى على المُهتمِّين بالتُّراثِ والفنونِ الإسلاميّةِ حجمُ التَّفاعلِ الثَّقافيِّ بين الأندلس وشمالِ إفريقيا. فمِن الأندلسِ، جاءَت العديدُ من الأساليبِ الفنِّيّةِ التي عزَّزَت تَطَوُّرَ الزَّلِيج، والَّتي ارتكَزَت على الهندسةِ والأشكالِ الزَّخرفيّةِ النَّباتيّة. ونجِدُ أقدمَ الأشكالِ التي تَمَّ اعتمادُها في المغربِ العربيِّ في عهدِ الدَّولةِ المُوحِّديّةِ والمرينيّةِ، حيثُ ازدهَرَ فنُّ العمارةِ الإسـلاميَّةِ بكلِّ جوانبِه، ولا سِيَّما فنُّ المِعمارِ الدَّاخليِّ المبنيِّ على التَّجميلِ بالزَّلِيج.
3. العصرُ الحديث وتحوُّلاتُه
رغمَ أنَّ حِرْفَةَ الزَّلِيجِ قد مَرَّت بفتراتٍ من الضُّعفِ مع دخـولِ الاستعمارِ الأجنبيِّ وتغيُّرِ الأذواقِ الدِّيكوريّة، إلّا أنَّها عادت لِتَشهَدَ رواجًا كبيرًا خلالَ العقودِ الأخيرة. فقد بدأتِ المؤسَّساتُ الثقافيّةُ تُسلِّطُ الضَّوء على أهمّيّةِ صِيانةِ المَعالِمِ التاريخيّةِ والحِرَفِ التُّراثيّةِ، إضافةً إلى انتعاشِ السِّياحةِ الثقافيّةِ التي حفَّزت على إحياءِ هذه الفنونِ والعنايةِ بها باعتبارِها جزءًا لا يَتجزَّأُ من الهُوِيَّةِ المَحَلِّيَّةِ والقوميَّة.
الخاماتُ والأدواتُ الأساسيّة في صِناعةِ الزَّلِيج
تَنطوي صِناعةُ الزَّلِيجِ على مَرَاحلَ معقَّدةٍ تَتَطلَّبُ دِقَّةً وخِبرةً طَويلَةً، كما تستلزِمُ مَجموعةً من الموادِّ والأدواتِ الخاصَّة. يَعتمدُ الحِرَفيُّونَ في شغلِهم على مايلي:
- الطِّين: يُعتبَرُ المادّةَ الرَّئيسيّةَ في صناعةِ الزَّلِيجِ؛ حيثُ يُجْمَعُ الطِّينُ الطبيعيُّ ويُخْتَلَطُ بِعَناصِرَ مُعيَّنَةٍ كالرمْلِ أو الأتربَةِ التي تُضفِي عليه صلابةً إضافيَّة. بعد ذلكَ، يُعجَنُ ويُشكَّلُ في قوالِبَ تُحدِّدُ حجمَ القِطَعِ الأوَّليَّة.
- الأصباغُ المَعدنيَّة: تُستَخدَمُ أصباغٌ طبيعيَّةٌ ومَعدنيّةٌ كأكاسيدِ الحديدِ والنُّحاسِ والكُوبالتِ والمَغنيسيومِ للحصولِ على مجموعةٍ واسِعةٍ من الألوان. يُعَدُّ اللونُ الأزرقُ بدرجاتِه، والأخضَرُ، والأصفَرُ، والأسوَدُ، والأبيَضُ، من أبرزِ الألوانِ المُتَداولةِ في صِناعةِ الزَّلِيج.
- قوالِبُ التَّقطيع: بعدما تَخرجُ القطعُ الخَزَفيّةُ من الأفرانِ الأوَّليةِ أو بَعدَ تجفيفِها، تُقطَّعُ بواسطةِ أدواتٍ خاصَّةٍ تُسمَّى “الشِّقافَة” أو “القَطعَة”، وهي تُمَكِّنُ الحِرَفيَّ من تَشكيلِ أشكالٍ هندسيّةٍ دَقيقةٍ مثل النُّجومِ، والمُعيَّناتِ، والمُربَّعاتِ، وغيرِها.
- الأفرانُ التَّقليديّة: تَمُرُّ القطعُ الخَزفيّةُ بفترتينِ من الشَّيِّ: الأُولى تكونُ عندَ حرارةٍ مُتوسِّطةٍ إلى حينِ تَصلُّبِ الطِّين، أما الثَّانيةُ فتَكونُ أكثرَ شدَّةً لتثبيتِ الألوانِ والزَّجاجِ الذي يُكسبُ القطعَ بريقًا ولمَعانًا مُميَّزًا.
- معدَّاتُ الرَّسمِ والزَّخرَفَة: بعد تَكوينِ القطعِ بالشَّكلِ المَطلوب، يأتي دَورُ تَلوينِها وتَزيينِها بالأشكالِ الزَّخرفيّة. يَحتاجُ الحِرَفيُّ إلى فرَاشٍ دَقيقَةٍ، إضافةً إلى مَعاييرَ وأَدوَاتِ قَيسٍ لضَمانِ دِقَّةِ تَطَابُقِ الأشكالِ الهندسيّة.
مَرَاحِلُ صِناعةِ الزَّلِيج
تَمرُّ صِناعةُ الزَّلِيجِ بعدَّةِ مَرَاحِلَ تَتَّسِمُ بالدِّقَّةِ والحِرْفِيّةِ العالية:
- إعدادُ الطِّين: تُجْمَعُ كُتَلُ الطِّينِ من مصادرَ جَبَليّةٍ أو نهريّةٍ، وتُترَكُ لِتَخمُرَ عدَّةَ أيَّامٍ لتَخليصِها من الشَّوائِب. ثُمَّ تُعجَنُ يدويًّا أو بِواسِطَةِ آلاتٍ بسيطةٍ لتَكوينِ عَجينةٍ مُتجانِسَة.
- التَّشكيلُ الأوَّلي: يُوضَعُ الطِّينُ في قوالِبَ مُستطيلةٍ أو مُربَّعةٍ لتَشكيلِ قطعِ البِلاطِ الأوَّليّة، ثُمَّ تَخضَعُ لِمُدَّةٍ من التَّجفيفِ الطبيعيِّ قبل إدخالِها الأفرانِ لأوَّلِ مَرَّة.
- الحَرْقُ الأوَّلي: تَدخُلُ القطعُ إلى الأفرانِ التقليديّة، حيثُ تُشوى على حرارةٍ تَتَراوَحُ بين 800 و1000 درجةٍ مئويّة. يَمنَحُها هذا الحَرقُ صلابةً جُزئيّةً تُسَهِّلُ عَمليّةَ التَّلوينِ والتَّقطيعِ فيما بَعد.
- التَّقطيعُ والتَّنقيب: يَبدأُ الحِرَفيُّ الآنَ بِتقسيمِ القطعِ إلى أشكالٍ زَخرفيَّةٍ بحسبِ التَّصميمِ المطلوب. يَستَخدِمُ قَوالِبَ حَديديَّةً ومَطارِقَ دَقيقةٍ، إضافةً إلى المبارِدِ والأدواتِ الأخرى لِضَبطِ الحوافِّ والتَّفاصيل.
- التَّلوينُ والتَّزجيج: تُرَسَّمُ الأشكالُ الزَّخرفيّةُ بالأصباغِ المعدنيّة، ثُمَّ توضعُ طبقةٌ من الزَّجاجِ المَسحوقِ الذي يَنصَهِرُ مَع الحَرارَةِ العالِيةِ ليَمنحَ القطعَ لمَعانًا فريدًا ويحميها من الرُّطوبةِ والعوامِلِ الخارجيّة.
- الحَرقُ النِّهائي: تُعَادُ القطعُ إلى الأفرانِ بدرجاتِ حرارةٍ قد تَصلُ إلى 1200 درجةٍ مئويّة. هنا يَترسَّخُ اللونُ والزَّجاجُ على سَطحِ القطع، فيَزدادُ مَتانةً وبريقًا.
- التَّجميعُ والتركيب: بَعدَ أن تُصبِحَ القطعُ جاهزةً، تَأتي الخُطوةُ الأخيرةُ الّتي تَتمثَّلُ في تَجميعِها على الجدرانِ أو الأرضيّاتِ وَفْقَ التَّصميمِ المُخطَّط. يُستخدَمُ الغِراءُ الأسمنتيُّ أو الخلائطُ الخاصّةُ لتَثبيتِ القِطَعِ بإحكام.
دَورُ الزَّلِيجِ في العِمارَةِ الإِسلاميّة والمَغرِبيّة
منذُ القِدَمِ، اضطلعَ الزَّلِيجُ بدَورٍ مُهمٍّ في تَزيينِ المَباني الإسلاميَّةِ؛ فهو يَمنَحُ الجدرانَ والأرضيّاتِ مَظهَرًا فَخيمًا ومُترَفًا. يَتَناغَمُ مع أُسُسِ الفَنِّ الإسلاميِّ في اعتمادهِ على الأشكالِ الهندسيّةِ المُتداخلةِ التي تُوحي بالتَّواصُلِ وَاللّانهائيّة، كما يُستخدَمُ في تغطيةِ القِبابِ والمِناراتِ والأعْمِدَة، وتَوَسَّعَ استخدامُهُ لاحقًا لِيَشمَلَ مَقَاصِرَ القُصورِ والبيوتِ الفَخمة. يُمثِّلُ الزَّلِيجُ امتدادًا لِفِكرَةِ “وَحدَةِ الجُزءِ في الكلّ” التي نَلمسُها بقوَّةٍ في الفَنِّ الإسلامي، حيثُ تتكاملُ القِطَعُ الزَّخرفيَّةُ الصَّغيرةُ لتَشكيلِ مَشهدٍ بصريٍّ شامِلٍ ومُبهِر.
الابتكاراتُ الحَديثةُ في صِناعةِ الزَّلِيج
1. التَّصميمُ الرَّقمي
على الرغمِ من أنَّ صناعةَ الزَّلِيجِ تَعتمدُ بشكلٍ أساسيٍّ على المَهاراتِ اليدويَّةِ، فقد استَفادَ الحِرَفيُّونَ في العصرِ الحَديثِ من بَرامِجَ تصميمٍ رقميّةٍ تُساعِدُهم في ابتكارِ أنماطٍ هَندسيّةٍ أكثَرَ تَعقيدًا. ورغمَ أنَّه لا يُمكِنُ الاستِغناءُ عن اللَّمسَةِ البشريّةِ الإبداعيَّة، إلّا أنَّ التكنولوجيا تُوَفِّرُ وقتًا وتُقلِّلُ من الهدرِ في الخامات.
2. إدخالُ الألوانِ المعاصِرَة
بالإضافةِ إلى الألوانِ التقليديّةِ المعروفةِ في الزَّلِيج، بدأَ بعضُ الحِرَفيّينَ يَستخدِمونَ نِطاقًا أوسعَ من الأصباغِ وألوانِ الميناءِ المُعاصِرة، مِمَّا يُتيحُ لهُم إدخالَ التَّدرُّجاتِ والتَّشابُكِ اللَّونيِّ الذي يستَهوي المَعماريّينَ ومُصمِّمي الدّيكورِ الحديثين.
3. استِعمالاتٌ جَديدة
لم يَعُدِ الزَّلِيجُ مَحصورًا في تغطيَّةِ الجُدرانِ أو الأرضيّات، بل تجاوزَ ذلكَ إلى استِعمالِه في وَحَداتِ الدِّيكور الدَّاخليّة والخارجيّة، مثل التُّحفِ الفَنِّيَّةِ، وألواحِ الأثاث، وأسطحِ الطاولات. يُعزِّزُ هذا التَّطوّرُ انتشارَ حِرْفَةِ الزَّلِيجِ في الأسواقِ العالَميَّةِ التي تُقدِّرُ الحِرَفَ اليدويَّةِ والأصالةِ الثَّقافيَّة.
تَحدّياتُ حِرْفَةِ الزَّلِيج في العصرِ الحَديث
1. تراجُعُ الحِرَفيِّينَ الخُبراء
تُعاني حِرْفَةُ الزَّلِيجِ من قِلَّةِ المَهَرةِ الذينَ يَحمِلونَ سِرَّ هذه الصَّناعةِ ودقائقِها. إذ يَميلُ الشَّبابُ غالبًا إلى العَمَلِ في مَجالاتٍ تُوفِّرُ رِبحًا أعلى ومَجهودًا أقل، ممَّا يَجعلُ انتقالَ الخِبراتِ من جيلٍ إلى آخرَ في حالةٍ من التَّراجُع.
2. التَّنافُسُ مع المَوادِّ الصِّناعيَّة
يُواجِهُ الزَّلِيجُ منافسةً شَرِسَةً من المُنتَجاتِ الصِّناعيّةِ الرَّخيصةِ والكبيرةِ الانتِشار، مثل السِّيراميكِ الصِّناعيِّ والباركِيه. ورغمَ أنَّ الزَّلِيجَ له طابِعٌ فَنِّيٌّ وتاريخيٌّ مُتميِّز، إلّا أنَّ بعضَ المَساحاتِ التجاريّةِ أو الفُندُقيَّةِ قد تُفضِّلُ الاقتِصادَ في النَّفقاتِ على حِسابِ الأصالةِ والحِرْفِيَّة.
3. التَّقلُّباتُ الاقتصاديّة
تَشهدُ الأسواقُ العالميَّةُ تقلُّباتٍ كبيرةً من حيثُ أسعارُ الموادِّ الأوَّليّةِ ومعدَّلاتُ العرضِ والطَّلَب، مِمَّا قد يُؤثِّرُ على تكلفةِ إنتاجِ الزَّلِيجِ وربحيَّةِ الحِرَفِيِّين. وَمَع تراجُعِ القُوَّةِ الشِّرائيَّةِ في بَعضِ البُلدان، تَضطرُّ الورشُ الصَّغيرةُ أحيانًا إلى إغلاقِ أبوابِها أو تَخفيضِ جودةِ الخاماتِ لضَمانِ الاستمرار.
4. الحاجَةُ إلى تَصدير
بِالنِّسبةِ للكثيرِ من الحِرَفِيِّينَ المُتخصِّصينَ في حِرْفَةِ الزَّلِيج، يَكُونُ السُّوقُ المَحَلِّيُّ محدودًا، ما يَدفَعُهم إلى البَحثِ عن فُرَصٍ للتَّصديرِ. غَيرَ أنَّ رَفعَ مِقدارِ التَّصديرِ إلى الأسواقِ العالميَّةِ يَتَطلَّبُ تَكاليفَ لوجستيّةٍ عالية، وإجادةً لشروطِ النَّقلِ الدَّوليِّ، وملاءمةَ ذَوْقِ المُستهلكِ الأجنبيّ، وهي أمورٌ لَيْسَت مُتاحةً دائمًا للجميع.
آفاقُ وتَوجُّهاتُ المُستَقبل
في ظلِّ التَّحدّياتِ المَذكورة، يَبقَى مُستَقبَلُ حِرْفَةِ الزَّلِيجِ مُرتبِطًا بقدرةِ الحِرَفِيِّينَ والمُؤسَّساتِ الثَّقافيَّةِ والحُكوماتِ على دَعمِ هذا الفنِّ وحِمايتِه من الاندِثار. وتَبلُغُ أهمِّيَّةُ هذا الدَّعمِ ذُروَتَها عندما يَتمُّ استثمارُهُ في التَّعليمِ والتَّدريب، سواءٌ في مدارسِ الفُنونِ والحِرَفِ التَّقليديَّة، أو في الدَّوراتِ التِّقنيَّةِ التي يُشرِفُ عليها الأساتِذةُ الكبار.
عَلاوةً على ذلك، يُمكنُ للتَّكنولوجيا الحديثةِ أن تُسهِمَ في تَعزيزِ هذا الفنِّ عبر التَّسويقِ الإلكترونيِّ وتَوْسِيعِ شَريحةِ العُملاء حول العالَم، إذ تستطيعُ الورَشُ الحِرَفِيَّةُ اليومَ أن تُعرَضَ مُنتجاتُها عَبر مَنَصَّاتٍ عالميَّةٍ واستِخدامِ وسائلِ التَّواصُلِ الاجتماعيّ للبُلوغِ إلى جمهورٍ جديدٍ، يُقَدِّرُ الأصالةَ والإبداعَ اليدويَّ. ومن ثَمَّ، قد يُؤدِّي هذا النَّمُوُّ في الطَّلَبِ إلى إنعاشِ الصِّناعةِ وتَوافُرِ مَوارِدَ إضافيَّةٍ لتطويرِ المهاراتِ والأدوات.
خاتمة
تَتميَّزُ حِرْفَةُ الزَّلِيجِ بتُراثِها العريقِ الذي يَمتَدُّ إلى قرونٍ من التَّاريخ، ويَعتَبرُها الكثيرونَ جسرًا يَربِطُ الماضي بالحاضر، وجامِعًا بينَ حُضارةٍ إسلاميَّةٍ زاخِرةٍ وأذواقٍ فَنِّيَّةٍ مُعاصِرة. وعلى الرُّغمِ من التَّحدّياتِ التي تُواجِهُهَا في عصرِ العَولَمَةِ والتَّصنيعِ الكَبير، إلّا أنّ الحفاظَ على جَوْدَةِ هذا الفنِّ وأصالَتِه يَضُمَنُ بقاءَهُ حيًّا ومُنتعِشًا، لِيُواصِلَ إبهارَ عُشّاقِ الجَمالِ عَبر العُصور.
ولئن كانتِ الحِرَفُ التُّراثيّةُ قد تُعتَبرُ بِعينِ الكَثيرينَ صِناعاتٍ تَقليديّةً بَطيئةَ النُّمُو، إلّا أنَّ حِرْفَةَ الزَّلِيجِ تُؤكِّدُ أنَّ الأصالةَ لا تَبلى مع مَرورِ الزمن، بل تُجدِّدُ نَفسَها وتُضيفُ إلى فَنِّ العِمارةِ بُعْدًا روحيًّا وإنسانيًّا. وها هي اليوم، وبِفَضلِ انفتاحِ الأسواقِ والاستِفادةِ من التكنولوجيا الحديثة، تَخطُو خُطواتٍ واثِقةً نَحْوَ عالَمٍ يَتَوقُ أكثرَ من أيِّ وقتٍ مَضى إلى الفَنِّ الذي يَجمَعُ بَينَ العُمقِ التُّراثيِّ والابتكارِ المُعاصِر.
للاطّلاعِ أكثرَ على طُرُقِ حِمايةِ التُّراثِ الثَّقافيِّ وتَسجيلِ الحِرَفِ التَّقليديّةِ ضمنَ قوائمِ التُّراثِ العالميّ، يُمكنُ زيارةُ موقع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو).