تُعدّ حرفة الفخار واحدة من أقدم الحِرَف التي عرفتها الحضارات البشريّة عبر العصور، فقد صاغت الأيادي الماهرة أواني وأدوات الفخّار منذ آلاف السنين، مستخدمة الطين والنار لتشكيل قطعٍ تتنوّع بين الاستعمالات اليوميّة والأغراض الفنيّة. وفي حين شهد العالم تطورًا تقنيًّا كبيرًا في مختلف مجالات الصناعة، ظلّت حرفة الفخّار محافظة على رونقها العريق وأهمّيتها الثقافيّة والاقتصاديّة. في هذا المقال، سنتعرّف على جذور حرفة الفخّار، وأهميّتها، وأهمّ التقنيات والأدوات التي يستخدمها الحِرَفيّون، إضافة إلى استشراف آفاق تطوّر هذه المهنة في المستقبل.
أصل حرفة الفخار وارتباطها بالحضارات القديمة
- النشأة والتطوّر التاريخي
ترجع أقدم آثار الفخّار في العالم إلى ما يزيد عن عشرة آلاف عام، حيث عُثر على أدلّة تاريخيّة تدلّ على ممارسة هذه الحرفة في مناطق متفرّقة من العالم مثل بلاد الرافدين ومصر القديمة والصين واليونان. وتمثّل القطع الفخّاريّة المكتشفة هناك شاهدًا حيًّا على قدرة الإنسان المبكّرة على تشكيل المواد الطبيعيّة لتلبية احتياجاته.
– في البداية، استخدم الإنسان الأيدي فقط لتشكيل الأوعية والأدوات الطينيّة قبل أن يكتشف العجلة الدوّارة (دولاب الخزّاف) التي سهّلت عملية التشكيل وساعدت في زيادة الإنتاج.
– لاحقًا، تعلّم الحِرَفيّون استخدام الأفران البدائيّة لحرق الفخّار وتجفيفه على درجات حرارة أعلى، ما رفع من صلابة المنتج ومتانته. - الفخّار في الحضارات العربيّة والإسلاميّة
على الرّغم من وجود حرفة الفخّار في مناطق عدّة، فإنّها اتخذت طابعًا فريدًا في المنطقة العربيّة والإسلاميّة. فقد ازدهرت صناعة الفخّار إبّان الحضارة الإسلاميّة؛ إذ برع الحِرَفيّون في زخرفة الأواني والخزفيّات بأشكال هندسيّة ورسمات نباتيّة وخطوط عربيّة مميّزة، وتم تطوير أساليب جديدة في التزجيج والتلوين لإضفاء لمسات جماليّة تجعل من القطع الفخّاريّة أعمالًا فنيّة خالدة.
– اشتهرت بعض المدن بصناعة الفخّار مثل مدينة فاس في المغرب، ومدينة الخزف في تونس، إضافةً إلى العديد من المناطق في مصر والعراق وبلاد الشام، حيث كانت الورش التقليديّة مكانًا لتعلّم هذه الحرفة وتوارثها عبر الأجيال.
أهمية حرفة الفخّار اليوم
- القيمة الثقافيّة والحضاريّة
تحتلّ حرفة الفخّار مكانة مرموقة في الذاكرة الجمعيّة للمجتمعات العربيّة وغيرها من الشعوب. فامتلاك قطعة فخّاريّة قديمة يعني اقتناء إرثٍ تاريخيّ ملموس يروي قصص الحضارات والإنجازات البشريّة. هذا علاوةً على المهرجانات والأسواق التقليديّة التي تُقام في مدن عدّة بغرض تسويق المنتجات الفخّاريّة والترويج لها سياحيًّا. - الدور الاقتصادي
تعتبر صناعة الفخّار مصدر دخلٍ مهمٍّ لكثير من الأسر والحِرَفيّين في المناطق التي تحتضن تلك المهنة. فالمناطق الريفيّة على وجه الخصوص تعتمد على بيع الأواني والأدوات الفخّاريّة في الأسواق المحليّة والسياحيّة، ممّا يوفّر فرص عملٍ ويعزّز التنميّة المحليّة. كما أنّ تعزيز صادرات الفخّار يعدّ رافدًا للدخل القومي في بعض البلدان التي تشتهر بجودة منتجاتها الفخّاريّة وفرادتها. - الحفاظ على التراث الحِرَفي
من أهمّ ما يميّز حرفة الفخّار هو ارتباطها الوثيق بالتراث المحليّ، فهي حرفة متوارَثة تهتم بها الأجيال الجديدة وتعمل على تطويرها مع الحفاظ على روحها الأصيلة. وتأتي الجهود الكبيرة في توثيق هذه الحرفة ودعمها عبر المؤسّسات الثقافيّة والحكوميّة بهدف حمايتها من الاندثار، لا سيما في ظلّ اجتياح المنتجات الصناعيّة للسوق وانصراف بعض الحِرَفيّين إلى أعمالٍ أخرى. - الجوانب البيئيّة والاستدامة
بالرغم من الاعتماد على النار في حرق القطع الفخّاريّة، إلّا أنّ الفخّار نفسه يُعدّ منتجًا صديقًا للبيئة مقارنةً بالبلاستيك والمواد الحديثة الأخرى. فهو مشتقّ من الطين الطبيعيّ، ويمكن إعادة تدويره مرارًا وتكرارًا بعد تكسيره أو إعادة تشكيله، الأمر الذي يجعله خيارًا أكثر استدامةً ومراعاةً للبيئة في الاستخدام اليومي.
المواد والأدوات المستخدمة في حرفة الفخّار
- الطين
يُعتبر الطين المادّة الأساسيّة في حرفة الفخّار، ويختلف نوع الطين المُستخدم باختلاف المناطق والخصائص الجيولوجيّة. هناك أنواع متعدّدة منها:
– الطين الأحمر: الأكثر شيوعًا ووفرة، ويتميّز بلونه الأحمر الذي ينتج عن وجود أكسيد الحديد.
– الطين الأبيض أو الكاولين: يستخدم في صناعة البورسلان والخزف الفاخر نظرًا لنقائه الشديد وقابلية تحمّله لدرجات حرارة عالية.
– الطين الحجريّ: يجمع بين صلابة السّيراميك وسهولة التشكيل، وغالبًا ما يكون مناسبًا لصناعة أدوات الاستخدام اليومي. - الماء
يُضاف الماء إلى الطين بنسب مختلفة وفقًا لدرجة التماسك المطلوبة. وتكمن أهميّة الماء في تسهيل عمليّة العجن والتشكيل، ويجب الحذر من زيادة الماء حتى لا يصبح الطين رخوًا صعب التشكيل. - دولاب الخزّاف (العجلة الدوّارة)
تُعدّ العجلة الدوّارة من أبرز الأدوات التي أحدثت نقلة نوعيّة في حرفة الفخّار؛ إذ تسمح بتشكيل الأوعية والأدوات بدقّة وسرعة أكبر. يقوم الخزّاف بوضع قطعة من الطين في منتصف الدولاب الذي يدور إمّا يدويًّا أو بالاعتماد على الكهرباء، ثم يشكّل الطين باستخدام يديه وأدواته المختلفة. - الأدوات اليدويّة
تتنوّع الأدوات اليدويّة بين سكاكين وحِراب وملاعق مصنوعة خصّيصًا لنقش الزخارف أو نحت الأشكال والخطوط على الفخّار قبل عملية الحرق. كما يستخدم الفنّانون الإسفنج والفرش لتنظيف وتنعيم الأسطح. - الفرن
تمثّل عمليّة حرق الفخّار المرحلة النهائيّة والأساسيّة لتثبيت الشكل وجعل القطع صلبة وقابلة للاستخدام. تتراوح درجات الحرارة في الأفران الحديثة بين 800 و1300 درجة مئويّة. وتتميّز بعض الأفران التقليديّة بكونها تُشغَّل بالحطب أو الفحم، فيما تعمل الأفران الحديثة بالغاز أو الكهرباء، ما يوفّر دقّةً أكبر في التحكم بالحرارة.
عمليّة صناعة الفخّار خطوة بخطوة
- استخراج الطين وتنقيته
تبدأ الرحلة بحصد الطين أو جلبه جاهزًا من الأسواق المخصّصة. وعادةً ما يخضع الطين لعمليّة تنقية تشمل إزالة الحصى والشوائب، حتى يصبح ناعمًا قابلًا للتشكيل. - العجن
يُخلَط الطين بالماء في أحواض مخصّصة، ثم يبدأ الحِرَفيّ بعجنه جيّدًا لضمان توزيع الماء بشكل متساوٍ ومنع تكوّن فراغات هوائيّة قد تتسبب في تشقّق القطعة لاحقًا. - التشكيل
بعد تجهيز العجينة، تأتي مرحلة التشكيل إمّا باستخدام العجلة الدوّارة أو باليد (التشكيل اليدوي). في حالة العجلة الدوّارة، يضع الخزّاف قطعة الطين في منتصف القرص الدوّار ويقوم بتحريك يديه صعودًا وهبوطًا لتشكيل الجدران، ثم يُشكِّل الحوافّ والأطراف حسب الرغبة. أمّا في التشكيل اليدوي فيُعتمد أسلوب “الشرائح” أو “الكُرات” أو “اللفائف” لإنشاء الشكل المطلوب. - التشطيب الأولي والتجفيف
بعد الانتهاء من التشكيل، تُترك القطعة لعدّة ساعات أو أيّام (بحسب المناخ وحجم القطعة) لتجفّ تدريجيًّا وتصبح صلبة بما يكفي لتحمّل عمليات الزخرفة والتشطيب. ويجب أن يتمّ ذلك في مكانٍ معتدل الحرارة بعيدًا عن تيارات الهواء القويّة وأشعّة الشمس المباشرة، حتّى لا تتصدّع أو تنكمش القطعة بسرعة. - الزخرفة والتلوين
تأتي مرحلة الزخرفة لإضفاء لمسةٍ فنيّة على القطع الفخّاريّة؛ إذ يقوم الحِرَفيّون بنقش الأشكال الهندسيّة أو النباتيّة أو الحيوانيّة باستخدام أدوات حادّة. كما قد تُرسم بعض الأصباغ بالأكاسيد المعدنيّة لإعطاء ألوان مميّزة، ثم يُضاف طلاء (التزجيج) الذي يمنح القطعة طبقة لامعة أو مطفيّة ويحميها من الماء ويطيل عمرها الاستهلاكي. - الحرق النهائي
تُوضع القطع المجهّزة في الفرن لمدّة محدّدة وفي درجات حرارة مرتفعة، ويعتمد نوع الفرن ودرجة الحرارة على نوع الطين والمطلوب من المنتج النهائي. في بعض الأحيان، تخضع القطع لعمليّة حرق ثانية بعد إضافة الطلاء والتلوين، كي تكتسب صلابتها النهائيّة وتبرز ألوان الزخارف بشكل أوضح.
التحدّيات التي تواجه حرفة الفخّار
- التنافس مع المنتجات الصناعيّة
تواجه حرفة الفخّار منافسة كبيرة من الصناعات الحديثة كالزجاج والبلاستيك والمعادن الرخيصة التي تُصنَع بأعدادٍ كبيرة وأسعار منخفضة. ما يجعل الخزّافين المحليّين يواجهون صعوباتٍ في تسويق منتجاتهم. - تراجع عدد الحِرَفيّين
مثل العديد من الحِرَف التقليديّة، تعاني صناعة الفخّار من قلّة اهتمام الجيل الجديد بها؛ إذ يميل الشباب إلى التخصّص في القطاعات الأكاديميّة والتكنولوجيّة. ومع تقدّم الحِرَفيّين في العمر، يندر وجود من يتعلّم هذه المهنة بشغفٍ ورغبةٍ في استمرارها. - ارتفاع تكاليف المواد الخام والطاقة
شهدت السنوات الأخيرة زيادات في تكاليف استخراج الطين عالي الجودة، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار الطاقة المستخدمة في تشغيل الأفران. ومع عدم وجود دعم حكوميّ كافٍ في بعض المناطق، باتت صعوبة الحفاظ على الورش التقليديّة واستمرارها قائمة. - ضعف التسويق العالمي
بالرغم من القيمة الفنيّة والتراثيّة لمنتجات الفخّار، إلّا أنّ نقص الخبرة في التسويق الدولي أو عدم توفّر منصّات إلكترونيّة قويّة يعوق وصول تلك المنتجات إلى الأسواق العالميّة بوتيرة سريعة.
آفاق تطوير حرفة الفخّار
- الابتكار في التصميم
يمكن للحِرَفيّين إدخال تصاميم معاصرة تتناسب مع الأذواق الحديثة مع الحفاظ على الروح التقليديّة. فدمج العناصر التراثيّة في منتجات تصلح للديكورات الداخليّة المعاصرة يُسهم في جذب فئات جديدة من المستهلكين. - التسويق الإلكتروني وتجارة التجزئة
يشكّل التسويق عبر الإنترنت والتجارة الإلكترونيّة أفقًا رحبًا أمام صانعي الفخّار للوصول إلى أسواق عالميّة. عن طريق إنشاء منصّات إلكترونيّة خاصّة أو التعاون مع متاجر حرفيّة إلكترونيّة، يمكن تحقيق مبيعات دوليّة تعزّز من استدامة الحرفة. - السياحة الحِرَفيّة
تلعب السياحة دورًا كبيرًا في إنعاش الحِرَف التقليديّة، إذ يرغب الكثير من السياح في مشاهدة عمليّة تصنيع الفخّار واقتناء قطع فخّاريّة فريدة. يمكن لورش الفخّار تنظيم دوراتٍ تعليميّة وتقديم تجارب عمليّة تفاعليّة للسائحين، ما يُحوّل الورش إلى وجهة سياحيّة تُدرّ دخلًا إضافيًّا. - الدعم الحكوميّ والمؤسّسات الثقافيّة
يقع على عاتق الحكومات والمؤسّسات الثقافيّة دورٌ مهمّ في توفير التمويل والتدريب وحماية الحِرَفيّين. فإطلاق برامج دعم وترويج محليّة، فضلاً عن المعارض الدوليّة، سيساهم في حفظ هذه المهنة من الاندثار وتمكينها من مواكبة المنافسة. - التعاون بين الفنّانين والحِرَفيّين
يمكن فتح آفاقٍ جديدة لحرفة الفخّار عبر إقامة تعاون مشترك بين فنّانين حديثي الأسلوب وحِرَفيّين تقليديّين، ما يخلق تحفًا تجمع بين روح الماضي وأفكار الحاضر. ويعزّز هذا الدمج من قيمة المنتجات الفخّاريّة وفرادتها في الأسواق المحليّة والدوليّة.
الخاتمة
إنّ حرفة الفخّار ليست مجرّد مهنة صنع أدوات وأواني، بل هي شريانٌ ثقافيّ وتراثيّ يغذّي هويّة الشعوب ويدلّ على ابتكار الإنسان منذ القدم. وعلى الرّغم من التحدّيات الجمّة التي تواجه هذا الفنّ العريق، فإنّه لا يزال قادرًا على التطوّر والبقاء من خلال استثمار التقنيّات الحديثة والوسائل المبتكرة للتسويق. إنّ الحفاظ على حرفة الفخّار وتنشيطها هو حفاظٌ على إحدى ركائز الموروث الثقافيّ والتاريخيّ الذي يربط الماضي بالحاضر، ويمهّد لتوريثه إلى أجيال المستقبل.
للاطّلاع على معلوماتٍ أكثر تفصيلًا حول حرفة الفخار وتراثها العالميّ، يُمكن زيارة موقع منظّمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو).